الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
*1*الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم ... الربيع بن سليمان قال: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبدِ يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبيُّ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. والحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛ إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً، يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كُنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعِز جلاله. وأستعينه استعانةَ من لا حول له ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أَزلفت وَأَخرت: استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. بعثه والناس صنفان: أحدهما: أهل كتاب بدّلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أَنزل إليهم. فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم، فقال: ثم قال: وقال تبارك وتعالى:{ وقال تبارك وتعالى: وصنف كفروا بالله، فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وَخُشُبَاً، وَصُوَرَاً استحسنوا، ونبزوا أسماء افتعلوا، ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها، ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره، فعبدوه: فأولئك العرب. وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوت، ودابة، ونجم، ونار، وغيره. فذكر الله لنبيه جواباً من جواب بعض مَن عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. وحكى تبارك وتعالى عنهم: وقال تبارك وتعالى: وقال: وقال في جماعتهم، يذكّرهم مِن نِعَمِهِ، ويخبرهم ضلالتهم عامة، ومَنَّه على مَن آمن منهم: قال: فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أهلَ كفر في تفرقهم، واجتماعهم. يجمعهم أعظم الأمور: الكفرُ بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله. تعالى عما يقولون علواً كبيراً. لا إله غيره، وسبحانه، وبحمده ربُّ كل شيء وخالقهُ. من حيَّ منهم فكما وَصَفَ حاله حياً: عاملاً قائلاً بسخط ربه مزداداً من معصيته. ومن مات فكما وَصَفَ قولَه وعملَه: صار إلى عذابه. فلما بلغ الكتاب أجله فَحَقَّ قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى بعد استعلاء معصيته التي لم يرض: فَتَحَ أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري - في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية -: قضاؤه. فإنه تبارك وتعالى يقول: فكان خِيرتُهُ المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضلُ على جميع خلقه، بفتحِ رحمته، وختمِ نبوته، وأعمِّ ما أرسل به مرسلٌ قبله المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكرِه في الأولى، والشافعُ المشفَّعُ في الأخرى، أفضلُ خلقه نفساً، وأجمعُهُم لكل خُلُق رَضِيَهُ في دينٍ ودنيا. وخيرُهم نسباً وداراً محمداً عبدَه ورسولَه. وَعَرَّفَنَا وَخَلقَهُ [أي عرفنا مع خلقه، والعطف على الضمير المتصل المنصوب من غير توكيد أو فصل جائز.] نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النَّفعِ في الدين والدنيا. فقال: وقال: وقال: وقال: قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: قال الشافعي: وما قال مجاهدٌ من هذا بيّنٌ في الآية مستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير. فخص جل ثناؤه قومَه وعشيرَتَه الأقربين في النِّذَارة، وعمَّ الخلقَ بها بعدهم، ورفع بالقُرَآن ذِكر رسول الله، ثم خص قومه بالنِّذارة إذ بعثه فقال: وزعم بعض أهل العلم بالقُرَآن [ قال الشيخ أحمد شاكر: ضبطناه هنا وفي كل موضع ورد فيه في الرسالة بضم القاف وفتح الراء محققة وتسهيل الهمزة. وذلك اتباعاً للإمام الشافعي في رأيه وقراءته. ا.هـ وانظر تاريخ بغداد 2/62] أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف! إن الله بعثني أَن أُنذرَ عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون. [ ورد بمعناه في البخاري ومسلم وانظر الدر المنثور 5/95 - 98] قال الشافعي: أخبرنا بن عيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: يعني - والله أعلم - ذكرَه عند الإيمان بالله، والآذان. ويَحتمل ذكرَه عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عن المعصية. فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وَغَفَل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلى على أحد من خلقه. وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحداً من أمته بصلاته عليه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلاً عن من أُرسل إليه؛ فإنه أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تُمس بنا نعمة ظهرت ولا بَطَنَت، نلنا بها حظاً في دين ودنيا أو دُفِعَ بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائدُ عن الهلكة وموارد السَّوء في خلاف الرشد، المنبِّهُ للأسباب التي تورد الهلكة، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد. وأنزل عليه كتابه فقال: وأَعلَمَهُم ما أَوجب لأهل طاعته. وَوَعَظَهُم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالاً وأولاداً، وأطولَ أعماراً، وأحمدَ آثاراً، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آماله، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بِجَلِيَّة التبيان، ويتنبهوا قبل رَين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة حين لا يُعتِب مذنب، ولا تؤخذ فدية، و فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه. والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به. فحقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة. فنسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة. قال الشافعي: فليست تنـزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: وقال: وقال: وقال: قال الشافعي: والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول، متشعبةِ الفروع: فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القُرَآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض. ومختلفةٌ عند من يجهل لسان العرب. قال الشافعي: فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تَعَبَّدَهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه. فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثلُ جمُل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً وأنه حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونصِّ الزنا [أي ومثل النص الوارد في الزنا والخمر.] والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصاً. ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه. ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل. ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم. فإنه يقول تبارك وتعالى: { وقال: وقال: قال الشافعي: فوجَّههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: وقال:{ فَدَلهَّم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرَض عليهم منه، بالعقول التي رَكَّب فيهم، المميزةِ بين الأشياء، وأضدادها، والعلامات التي نَصَب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره. فقال فكانت العلامات جبالاً وليلاً ونهاراً، فيها أرواح [ الأرواح: جمع ريح. انظر الصحاح.] معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المَهابِّ. وشمسٌ وقمر، ونجوم معروفةُ المطالع والمغارب، والمواضعِ من الفلك. ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصَفْتُ، فكانوا ما كانوا مجتهدين غيرَ مُزايِلين أمرَه جلَّ ثناؤه. ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يُصلُّوا حيث شاؤوا وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا، وفي العَدل، وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ يُحدِثه لا على مثالٍ سبق فأمرهم أن يُشهدوا ذوَي عدل، والعدل: أن يعمل بطاعة الله، فكان لهم السبيلُ إلى علم العدل والذي يخالفه. وقد وُضِع هذا في موضعه، وقد وضعت جملاً منه رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها. قال الله تبارك وتعالى في المتمتع: فكان بيِّناً عند مَن خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع في المَرجِع عشرةُ أيام كاملة. قال الله: وقال الله: فكان بيِّنا عند من خوطب بهذه الآية أن ثلاثين، وعشراً أربعون ليلة. وقوله: { وقال الله: وقال: فافترض عليهم الصومَ، ثم بيَّن أنه شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعاً وعشرين. فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قبله: في ابن جماعة ((زيادةٌ تبيِّن جماع العدد)) . وأشبهُ الأمور بزيادة تبيين جُملة العدد في السبع، والثلاث، وفي الثلاثين والعشر: أن تكون زيادةً في التبيين؛ لأنهم لم يزالوا يعرفون هذين العددين وجماعة، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان. قال الله تبارك وتعالى:{ وقال: فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء دون الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة. ثم كان أقل غسل الوجه، والأعضاء مرة مرة، واحتمل ما هو أكثر منها، فبين رسول الله الوضوء مرة، وتوضأ ثلاثاً، ودل على أن أقل غسل الأعضاء يجزئ، وأن أقل عدد الغسل واحدة. وإذا أجزأت واحدة فالثلاث اختيار. ودلت السنة على أنه يجزئ في الاستنجاء ثلاثة أحجار، ودل النبي على ما يكون منه الوضوء، وما يكون منه الغسل، ودل على أن الكعبين والمرفقين مما يغسل؛ لأن الآية تحتمل أن يكونا حدين للغسل، وأن يكونا داخلين في الغسل. ولما قال رسول الله (ويل للأعقاب من النار) دلَّ على أنه غسل لا مسح. قال الله: فاستُغنِي بالتنـزيل في هذا عن خبرٍ غيرِه، ثم كان لله فيه شرطٌ أن يكون بعد الوصية والدَّين، فدل الخبر على أن لا يُجَاوَزَ بالوصية الثلثُ. *2*باب البيان الثالث قال الله تبارك وتعالى: وقال: وقال: ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات، ومواقيتَها وسننها، وعددَ الزكاة ومواقيتَها، وكيف عملُ الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبُتُ، وتختلف سننه وتَاتَفِقُ [ ايتفق ياتفق فهو موتفق. في لغة أهل الحجاز.]، ولهذا أشباهٌ كثيرة في القُرَآن والسنة. قال الشافعي: كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة: دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله. مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه: الدليلُ على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه. منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله كيف فرْضُهُ؟ وعلى من فرْضُهُ؟ ومتى يزول بعضه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ؟ ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب. وكل شيء منها بيانٌ في الكتاب الله. فكل من قَبِلَ عن الله فرائضه في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله سننه بفرْض الله طاعةَ رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قَبِلَ عن رسول الله، فمن الله قَبِلَ لِمَا افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله، ولسنة رسول الله: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قُبِل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحدَّ بأسباب متفرقة، كما شاء جل ثناؤه، { قال الله تبارك وتعالى: ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك ((تلقاءه)) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة. وقال خُفَافُ بن نُدْبة: ألا من مبلغ عَمراً رسولاً * وما تغني الرسالة شَطر عمرو وقال ساعدة بن جُؤَيَّة: أقول لأم زِنْبَاعٍ أَقيمي * صدور العِيس شطر بني تميمِ وقال لقيط الأيادي: وقد أظلكُمُ من شطر ثغركُمُ * هولٌ له ظُلَمٌ تغشاكُمُ قِطَعَا وقال الشاعر: إن العسير بها داءٌ مُخامرُها * فشطرَها بَصَرُ العينين مسحورُ قال الشافعي: يريد تلقاءها بَصَرُ العينين، ونحوَها: تلقاءَ جهتها. وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معايناً فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَاً فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه. وقال الله: فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه. أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملاً بها كان عدلاً، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل. وقال جل ثناؤه : فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَاً في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبهاً من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَاً فديناه به. ولم يحتمل المِثل من النَّعَم القيمةَ فيما له مِثلٌ في البدن من النعم: إلا مستكرهاً باطناً. فكان الظاهر الأعمُّ أولى المعنيين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل. وهذا الصنف من العلم: دليلٌ على ما وصفْتُ قبلَ هذا على أنْ ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم. وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس. ومعنى هذا البابِ معنى القياس؛ لأنه يُطلب فيه الدليل على صواب القبلةِ، والعَدلِ، والمِثل. والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، كطلب ما وَصَفتُ قبله، من القبلة والعدل والمثل. وموافقته تكون من وجهين: أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام. أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئاً أقربَ به شَبَهَاً من أحدهما: فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهَاً به، كما قلنا في الصيد. قال الشافعي: وفي العلم وجهان: الإجماع والاختلاف. وهما موضوعان في غير هذا الموضع. ومن جماع علم كتاب الله: العلمُ بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب. والمعرفةُ بناسخ كتاب الله، ومنسوخة، والفرْضِ في تنزيله، والأدبِ، والإرشادِ، والإباحةِ. والمعرفةُ بالموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه، فيما أحكم فرضه في كتابه، وبينه على لسان نبيه. وما أراد بجميع فرائضه؟ ومن أراد: أكلَّ خلقه أم بعضهم دون بعض؟ وما افترض على الناس من طاعته، والانتهاء إلى أمره. ثم معرفةُ ما ضرب فيها من الأمثال الدوالِّ على طاعته المبيِّنة لاجتناب معصيته، وتركُ الغفلة عن الحظ، والازديادُ من نوافل الفضل. فالواجبُ على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا. وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن في القُرَآن عربياً وأعجميًا والقُرَآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليداً له، وتركاً للمسألة عن حجته، ومسألةِ غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب. ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ. فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره. وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها. وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله. وعِلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من علم أكثر السنن في العلماء. فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟ فذلك يحتمل ما وصفتُ من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجدُ ينطقُ إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه، فهو تبع للعرب فيه. ولا ننكر إذ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِق به موضوعاً: أن يوافقَ لسانُ العجم، أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما يَاتَفِقُ القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟ فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع. وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه، وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه: قال الله: وقال: وقال: وقال: وقال: قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه. فقال تبارك وتعالى: وقال: { قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: { وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: وقال: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، 0 ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغيرِ ذلك. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَم به نُبوته، وأنْزَلَ به آخر كتبه: كان خيراً له. كما عليه يَتَعَلَّمُ [حذف ((أن)) في مثل هذا الموضع جائز قياساً والأكثرون على رفع الفعل حينئذ.] الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر بإتيانه، ويتوجه لِما وُجِّه له. ويكون تبَعاً فيما افتُرِض عليه، ونُدب إليه، لا متبوعاً. وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها. فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير. أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة"، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: (بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ){ البخاري: كتاب الإيمان/55؛ مسلم: كتاب الإيمان/84.]. أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح"، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي"، أنَّ النَّبيَّ قال: (إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ) [مسلم: كتاب الإيمان/82؛ النسائي: كتاب البيع/4138؛ أبوداود: كتاب الأدب/4293؛ الترمذي: كتاب البر والصلة/1849.] قال "الشافعي": فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاماً ظاهراً يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاماً ظاهراً، يُراد به الخاص. وظاهراً يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه. وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبَيِّنُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ. وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها. وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً [أي معروفة.] واضحة عندها، ومستَنكَراً عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه. ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه. *2* قال الله تبارك وتعالى: قال "الشافعي": فكل شيء، من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خَلَقَه، وكل دابة فعلى الله رزقُها، ويَعْلم مُستقَرَّها ومُسْتَوْدعها. وقال الله: وهذا في معنى الآية قَبْلَهَا، وإنما أُرِيد به مَن أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد، أو لم يُطِقْه؛ ففي هذه الآية الخصوص والعموم. وقال: وهكذا قول الله: وفي هذه الآية دلالةٌ على أنْ لم يستطعما كل أهل قرية، فهي في معناهما. وفيها، وفي: وفي القُرَآن نظائر لهذا، يُكْتَفَى بها إن شاء الله منها، وفي السنة له نظائر، موضوعةٌ مَوَاضِعَهَا.
|